كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كو- قال عليه الصلاة والسلام: «لا تجالسوا العلماء إلا إذا دعوكم من خمس إلى خمس: من الشك إلى اليقين ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى النصيحة ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد».
كز- أوصى النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: «يا علي احفظ التوحيد فإنه رأس مالي والزم العمل فإنه حرفتي، وأقم الصلاة فإنها قرة عيني، واذكر الرب فإنه بصيرة فؤادي، واستعمل العلم فإنه ميراثي».
كح- أبو كبشة الأنصاري قال ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الدنيا مثل أربعة رهط رجل آتاه الله علمًا وآتاه مالًا فهو يعمل بعلمه في ماله، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالًا فيقول لو أن الله تعالى آتاني مثل ما أوتي فلان لفعلت فيه مثل ما يفعل فلان فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالًا ولم يؤته علمًا فهو يمنعه من الحق وينفقه في الباطل، ورجل لم يؤته الله علمًا ولم يؤته مالًا فيقول: لو أن الله تعالى آتاني مثل ما أوتي فلان لفعلت فيه مثل ما يفعل فلان فهما في الوزر سواء».
الآثار:
أ- كميل بن زياد قال أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي فأخرجني إلى الجبانة فلما أصحر تنفس الصعداء ثم قال يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها فاحفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، يا كميل العلم خير من المال، والعلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله، يا كميل معرفة العلم زين يزان به يكتسب به الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه.
ب- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبل تهامة فإذا سمع العلم وخاف واسترجع على ذنوبه انصرف إلى منزله وليس عليه ذنب فلا تفارقوا مجالس العلماء فإن الله لم يخلق تربة على وجه الأرض أكرم من مجالس العلماء.
ج- عن ابن عباس خير سليمان بين الملك والمال وبين العلم فاختار العلم فأعطي العلم والملك معًا.
د- سليمان لم يحتج إلى الهدهد إلا لعلمه لما روي عن نافع بن الأرزق قال لابن عباس كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء قال ابن عباس لأن الأرض كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها فقال نافع فكيف بأوقات الفخ يغطي له بأصبع من تراب فلا يراه بل يقع فيه فقال ابن عباس إذا جاء القدر عمي البصر.
هـ- قال أبو سعيد الخدري تقسم الجنة على عشرة آلاف جزء تسعة آلاف وتسعمائة وتسعة وتسعون منها للذين عقلوا عن الله أمره فكان هذا ثوابهم على قدر ما قسم الله لهم من العقول يقتسمون المنازل فيها وجزء للمؤمنين الضعفاء الفقراء الصالحين.
و- قال ابن عباس لولده يا بني عليك بالأدب فإنه دليل على المروءة وأنس في الوحشة وصاحب في الغربة وقرين في الحضر وصدر في المجلس ووسيلة عند انقضاء الوسائل وغنى عند العدم ورفعة للخسيس وكمال للشريف وجلالة للملك.
ز- عن الحسن البصري: صرير قلم العلماء تسبيح وكتابة العلم والنظر فيه عبادة وإذا أصاب من ذلك المداد ثوبه فكأنما أصابه دم الشهداء وإذا قطر منها على الأرض تلألأ نوره، وإذا قام من قبره نظر إليه أهل الجمع فيقال هذا عبد من عباد الله أكرمه الله وحشر مع الأنبياء عليهم السلام.
ح- في كتاب كليلة ودمنة: أحق من لا يستخف بحقوقهم ثلاثة: العالم والسلطان والإخوان فإن من استخف بالعالم أهلك دينه ومن استخف بالسلطان أهلك دنياه ومن استخف بالإخوان أهلك مروءته.
ط- قال سقراط من فضيلة العلم أنك لا تقدر على أن يخدمك فيه أحد كما تجد من يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك ولا يقدر أحد على سلبه عنك.
ي- قيل لبعض الحكماء لا تنظر فأغمض عينيه، فقيل لا تسمع فسد أذنيه، فقيل لا تتكلم فوضع يده على فيه، فقيل له لا تعلم فقال: لا أقدر عليه.
يا- إذا كان السارق عالمًا لا تقطع يده لأنه يقول كان المال وديعة لي وكذا الشارب يقول حسبته خلا وكذا الزاني يقول تزوجتها فإنه لا يحد.
يب- قال بعضهم أحيوا قلوب إخوانكم ببصائر بيانكم كما تحيون الموات بالنبات والنواة، فإن نفسًا تبعد من الشهوات والشبهات أفضل من أرض تصلح للنبات.
قال الشاعر:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ** وأجسامهم قبل القبور قبور

وإن امرأ لم يحيى بالعلم ميت ** وليس له حتى النشور نشور

وَأَمَّا النكت فمن وجوه:
أ- المعصية عند الجهل لا يرجى زوالها وعند الشهرة يرجى زوالها، انظر إلى زلة آدم فإنه بعلمه استغفر والشيطان غوى وبقي في غيه أبدًا لأن ذلك كان بسبب الجهل.
ب- إن يوسف عليه السلام لما صار ملكًا احتاج إلى زيد فسأل ربه عن ذلك فقال له جبريل إن ربك يقول لا تختر إلا فلانًا فرآه يوسف في أسوإ الأحوال فقال لجبريل إنه كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله فقال جبريل إن ربك عينه لذلك لأنه كان ذب عنك حيث قال: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصادقين} [يوسف: 27] والنكتة أن الذي ذب عن يوسف عليه السلام استحق الشركة في مملكته فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم كيف لا يستحق من الله الإحسان والتحسين.
ج- أراد واحد خدمة ملك فقال الملك اذهب وتعلم حتى تصلح لخدمتي فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم بعث الملك إليه وقال اترك التعلم فقد صرت أهلًا لخدمتي فقال كنت أهلًا لخدمتك حين لم ترني أهلًا لخدمتك وحين رأيتني أهلًا لخدمتك رأيت نفسي أهلًا لخدمة الله تعالى وذلك أني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي والآن علمت أن الباب باب الرب.
د- تحصيل العلم إنما يصعب عليك لفرط حبك للدنيا لأنه تعالى أعطاك سواد العين وسويداء القلب ولا شك أن السواد أكبر من السويداء في اللفظ لأن السويداء تصغير السواد ثم إذا وضعت على سواد عينك جزءًا من الدنيا لا ترى شيئًا فكيف إذا وضعت على السويداء كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئًا.
هـ- قال حكيم: القلب ميت وحياته بالعالم والعلم ميت وحياته بالطلب والطلب ضعيف وقوته بالمدارسة فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب وإظهاره بالمناظرة وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم ونتاجه بالعمل فإذا زوج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكًا أبديًا لا آخر له و{قَالَتْ نَمْلَةٌ أَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم} [النمل: 18] إلى قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} كانت رياسة تلك النملة على غيرها لم تكن إلا بسبب أنها علمت مسألة واحدة وهي قوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} كأنها قالت إن سليمان معصوم والمعصوم لا يجوز منه إيذاء البريء عن الجرم ولكنه لو حطمكم فإنما يصدر ذلك منه على سبيل السهو لأنه لا يعلم حالكم فقوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} إشارة إلى تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن المعصية فتلك النملة لما علمت هذه المسألة الواحدة استحقت الرياسة التامة فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات كيف لا يستوجب الرياسة في الدنيا والدين.
ز- الكلب إذا تعلم وأرسله المالك على اسم الله تعالى صار صيده النجس طاهرًا والنكتة أن العلم هناك انضم إلى الكلب فصار النجس ببركة العلم طاهرًا، فههنا النفس والروح طاهرتان في أصل الفطرة إلا أنهما تلوثتا بأقذار المعصية ثم انضم إليهما العلم بالله وبصفاته فنرجو من عميم لطفه أن يقلب النجس طاهرًا هاهنا والمردود مقبولًا.
ح- القلب رئيس الأعضاء ثم تلك الرياسة ليست للقوة فإن العظم أقوى منه ولا للعظم فإن الفخذ أعظم منه ولا للحدة فإن الظفر أحد منه وإنما تلك الرياسة بسبب العلم فدل على أن العلم أشرف الصفات.
أما الحكايات:
ا- حكي أن هرون الرشيد كان معه فقهاء وكان فيهم أبو يوسف فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيته مالًا بالليل فأقر الآخذ بذلك في المجلس فاتفق الفقهاء على أنه تقطع يده.
فقال أبو يوسف: لا قطع عليه، قالوا لم؟ قال لأنه أقر بالأخذ والأخذ لا يوجب القطع بل لابد من الاعتراف بالسرقة فصدقه الكل في قوله، ثم قالوا للآخذ أسرقتها؟ قال: نعم، فأجمعوا كلهم على أنه وجب القطع لأنه أقر بالسرقة فقال أبو يوسف: لا قطع لأنه وإن أقر بالسرقة لكن بعد ما وجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ فإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل من ذلك.
ب- عن الشعبي كنت عند الحجاج فأتي بيحيى بن يعمر فقيه خراسان مع بلخ مكبلًا بالحديد فقال له الحجاج أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بلى فقال: الحجاج لتأتيني بها واضحة بينة من كتاب الله أو لأقطعنك عضوًا عضوًا فقال آتيك بها واضحة بينة من كتاب الله يا حجاج قال: فتعجبت من جرأته بقوله يا حجاج فقال له ولا تأتني بهذه الآية: {نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ} [آل عمران: 61] فقال: آتيك بها واضحة من كتاب الله وهو قوله: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاودُ وسليمان} [الأنعام: 84] إلى قوله: {وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى} فمن كان أبو عيسى وقد ألحق بذرية نوح؟ قال: فأطرق مليًا ثم رفع رأسه فقال: كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا.
ج- يحكى أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى أبي حنيفة ليناظروه في القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويشنعوا عليه فقال لهم: لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره فأشاروا إلى واحد فقال: هذا أعلمكم؟ قالوا: نعم قال: والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا: نعم قال: والإلزام عليه كالإلزام عليكم؟ قالوا: نعم قال: وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد لزمتكم الحجة؟ قالوا: نعم قال: كيف؟ قالوا: لأنا رضينا به إمامًا فكان قوله: قولًا لنا قال: أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة كانت قراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالإلزام.
د- هجا الفرزدق واحدًا فقال:
لقد ضاع شعري على بابكم ** كما ضاع در على خالصة

وكانت خالصة معشوقة سليمان بن عبد الملك وكانت ظريفة صاحبة أدب وكانت هيبة سليمان بن عبد الملك تفوق هيبة المروانيين فلما بلغها هذا البيت شق عليها فدخلت على سليمان وشكت الفرزدق فأمر سليمان بإشخاص الفرزدق على أفظع الوجوه مكبلًا مقيدًا فلما حضر وما كان به من الرمق إلا مقدار ما يقيمه على الرجل من شدة الهيبة فقال له سليمان بن عبد الملك: أنت القائل:
لقد ضاع شعري على بابكم ** كما ضاع در على خالصة

فقال ما قلته هكذا وإنما غيره عليَّ من أراد بي مكروهًا وإنما قلت: وخالصة من وراء الستر تسمع:
لقد ضاء شعري على بابكم ** كما ضاء در على خالصة

فسرى عن خالصة فلم تملك نفسها أن خرجت من الستر فألقت على الفرزدق ما كان عليها من الحلي وهي زيادة على ألف ألف درهم فأتبعه سليمان بن عبد الملك حاجبه لما خرج من عنده حتى اشترى الحلى من الفرزدق بمئة ألف ورده على خالصة دعا المنصور أبا حنيفة يومًا فقال الربيع وهو يعاديه يا أمير المؤمنين هذا يعني أبا حنيفة يخالف جدك حيث يقول: الاستثناء المنفصل جائز وأبو حنيفة ينكره فقال أبو حنيفة هذا الربيع يقول ليس لك بيعة في رقبة الناس فقال كيف؟ قال أنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل بيعتهم فضحك المنصور وقال: إياك يا ربيع وأبا حنيفة فلما خرج فقال الربيع يا أبا حنيفة سعيت في دمي فقال أبو حنيفة كنت البادي وأنا المدافع.
ويحكى أن مسلمًا قتل ذميًا عمدًا فحكم أبو يوسف بقتل المسلم به فبلغ زبيدة ذلك فبعثت إلى أبي يوسف فقالت: إياك وأن تقتل المسلم وكانت في عناية عظيمة بأمر المسلمين فلما حضر أبو يوسف وحضر الفقهاء وجيء بأولياء الذمي والمسلم فقال له الرشيد أحكم بقتله فقال يا أمير المؤمنين هو مذهبي غير أني لست أقتل المسلم به حتى تقوم البينة العادلة أن الذمي يوم قتله المسلم كان ممن يؤدي الجزية فلم يقدروا عليه فبطل دمه.
ز- دخل الغضبان على الحجاج بعدما قال لعدوه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك فقال له ما جواب السلام عليك؟ فقال وعليك السلام ثم فطن الحجاح، وقال: قاتلك الله يا غضبان، أخذت لنفسك أمانا بردي عليك أما والله لولا الوفاء والكرم، لما شربت الماء البارد بعد ساعتك هذه.
فانظر إلى فائدة العلم في هذه الصورة فلله در العلم ومن به تردى، وتعسا للجهل ومن في أوديته تردى.
ح- بلغ عبد الملك بن مروان قول الشاعر:
ومنا سويد والبطين وقعنب ** ومنا أمير المؤمنين شبيب

فأمر به فأدخل عليه، فقال أنت القائل ومنا أمير المؤمنين شبيب؟ فقال: إنما قلت ومنا أمير المؤمنين شبيب، بنصب الراء فناديتك واستغثت بك، فسرى عن عبد الملك وتخلص الرجل من الهلاك بصنعة يسيرة عملها بعلمه، وهو أنه حول الضمة فتحة.
ط- قال أبو مسلم: صاحب الدولة لسليمان بن كثير: بلغني أنك كنت في مجلس وقد جرى بين يديك ذكري، فقلت: اللهم سود وجهه واقطع عنقه وأسقني من دمه، فقال: نعم قلته، ولكن في كرم كذا لما نظرت إلى الحصرم فاستحسن قوله، وعفا عنه.
ي- قال رجل لأبي حنيفة: إني حلفت لا أكلم امرأتي حتى تكلمني وحلفت بصدقة ما تملك أن لا تكلمني أو أكلمها فتحير الفقهاء فيه فقال سفيان من كلم صاحبه حنث فقال أبو حنيفة: إذهب وكلمها ولا حنث عليكما.
فذهب إلى سفيان وأخبره بما قال أبو حنيفة؛ فذهب سفيان إلى أبي حنيفة مغضبًا وقال: تبيح الفروج فقال أبو حنيفة: وما ذاك؟ قال سفيان: أعيدوا على أبي حنيفة السؤال، فأعادوا وأعاد أبو حنيفة الفتوى، فقال من أين قلت؟ قال: لما شافهته باليمين بعدما حلف كانت مكلمة فسقطت يمينه، وإن كلمها فلا حنث عليه ولا عليها؛ لأنه قد كلمها بعد اليمين فسقطت اليمين عنهما.
قال سفيان: إنه ليكشف لك من العلم عن شيء كلنا عنه غافل.
يا- دخل اللصوص على رجل فأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثًا أن لا يعلم أحدًا، فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه، فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة فقال: أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأحضرهم إياه، فقال لهم أبو حنيفة.
هل تحبون أن يرد الله على هذا متاعه؟ قالوا: نعم، قال: فاجمعوا كلًا منهم وأدخلوهم في دار ثم أخرجوهم واحدًا واحدًا، وقولوا أهذا لصك؟ فإن كان ليس بلصه قال: لا، وإن كان لصه فليسكت، وإذا سكت فاقبضوا عليه، ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة، فرد الله عليه جميع ما سرق منه.
يب- كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلس أبي حنيفة، فقال يومًا لأبي حنيفة: إني أريد أن أتزوج ابنة فلان وقد خطبتها، إلا أنهم قد طلبوا مني من المهر فوق طاقتي، فقال: احتل واقترض وادخل عليها، فإن الله تعالى يسهل الأمر عليك بعد ذلك، ثم أقرضه أبو حنيفة ذلك القدر؛ ثم قال له: بعد الدخول أظهر أنك تريد الخروج من هذا البلد إلى بلد بعيد، وأنك تسافر بأهلك معك: فأظهر الرجل ذلك.
فاشتد ذلك على أهل المرأة وجاءوا إلى أبي حنيفة يشكونه ويستفتونه، فقال لهم أبو حنيفة: له ذلك، فقالوا: وكيف الطريق إلى دفع ذلك؟ فقال أبو حنيفة: الطريق أن ترضوه بأن تردوا عليه ما أخذتموه منه، فأجابوه إليه؛ فذكر أبو حنيفة ذلك للزوج، فقال الزوج: فأنا أريد منهم شيئًا آخر فوق ذلك، فقال أبو حنيفة: أيما أحب إليك أن ترضى بهذا القدر وإلا أقرت لرجل بدين فلا تملك المسافرة بها حتى تقضي ما عليها من الدين فقال الرجل الله الله لا يسمعوا بهذا فلا آخذ منهم شيئًا ورضي بذلك القدر فحصل ببركة علم أبي حنيفة فرج كل واحد من الخصمين.
يج- عن الليث بن سعد قال: قال رجل لأبي حنيفة؛ لي ابن ليس بمحمود السيرة أشتري له الجارية بالمال العظيم فيعتقها وأزوجه المرأة بالمال العظيم فيطلقها فقال له أبو حنيفة: إذهب به معك إلى سوق النخاسين فإذا وقعت عينه على جارية فابتعها لنفسك ثم زوجها إياه فإن طلقها عادت إليك مملوكة وإن أعتقها لم يجز عتقه إياها، قال الليث: فوالله ما أعجبني جوابه كما أعجبني سرعة جوابه.
يد- سئل أبو حنيفة عن رجل حلف ليقربن امرأته نهارًا في رمضان فلم يعرف أحد وجه الجواب فقال أبو حنيفة: يسافر مع امرأته فيطؤها نهارًا في رمضان.
يه- جاء رجل إلى الحجاج فقال: سرقت لي أربعة آلاف درهم فقال الحجاج: من تتهم؟ فقال: لا أتهم أحدًا قال: لعلك أتيت من قبل أهلك؟ قال: سبحان الله امرأتي خير من ذلك قال الحجاج لعطاره إعمل لي طيبًا ذكيًا ليس له نظير فعمل له الطيب ثم دعا الشيخ فقال: ادهن من هذه القارورة ولا تدهن منها غيرك ثم قال الحجاج لحرسه: اقعدوا على أبواب المساجد وأراهم الطيب وقال من وجد منه ريح هذا الطيب فخذوه فإذا رجل له وفرة فأخذوه فقال الحجاج من أين لك هذا الدهن؟ قال: اشتريته قال: أصدقني وإلا قتلتك فصدقه فدعا الشيخ وقال: هذا صاحب الأربعة آلاف عليك بامرأتك فأحسن أدبها، ثم أخذ الأربعة آلاف من الرجل، وردها إلى صاحبها.
يو- قال الرشيد يومًا لأبي يوسف: عند جعفر بن عيسى جارية هي أحب الناس إليّ وقد عرف ذلك وقد حلف أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق، وهو الآن يطلب حل يمينه.
فقال: يهب النصف ويبيع النصف ولايحنث.
يز- قال محمد بن الحسن: كنت نائمًا ذات ليلة، فإذا أنا بالباب يدق ويقرع فقلت: انظروا من ذاك؟ فقالوا: رسول الخليفة يدعوك فخفت على روحي فقمت ومضيت إليه، فلما دخلت عليه قال: دعوتك في مسألة: إن أم محمد يعني زبيدة قلت لها أنا الإمام العدل، والإمام العدل في الجنة، فقالت لي إنك ظالم عاصٍ فقد شهدت لنفسك بالجنة فكفرت بكذبك على الله وحرمت عليك، فقلت له يا أمير المؤمنين إذاوقعت في معصية هل تخاف الله في تلك الحالة أو بعدها: فقال إي والله أخاف خوفًا شديدًا، فقلت: أنا أشهد أن لك جنتين، لا جنة واحدة قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فلاطفني وأمرني بالانصراف فلما رجعت إلى داري رأيت البدر متبادرة إلي.
يح- يحكى أن أبا يوسف أتاه ذات ليلة رسول الرشيد يستعجله، فخاف أبو يوسف على نفسه، فلبس إزاره ومشى خائفًا إلى دار الخليفة، فلما دخل عليه سلم فرد عليه الجواب وأدناه، فعند ذلك هدأ روعه، قال الرشيد إن حليًا لنا فقد من الدار فاتهمت فيه جارية من جواري الدار الخاصة، فحلفت لتصدقيني أولأقتلنك وقد ندمت فاطلب لي وجهًا؛ فقال أبو يوسف: فأذن لي في الدخول عليها فأذن له فرأى جارية كأنها فلقة قمر؛ فأخلى المجلس ثم قال لها: أمعك الحلى؟ فقالت: لا والله، فقال لها: احفظي ما أقول لك ولا تزيدي عليه ولا تنقصي عنه إذا دعاك الخليفة وقال لك أسرقت الحلى فقولي نعم، فإذا قال لك فهاتها فقولي ما سرقتها، ثم خرج أبو يوسف إلى مجلس الرشيد وأمر بإحضار الجارية فحضرت، فقال للخليفة: سلها عن الحلى، فقال لها الخليفة: أسرقت الحلى؟ قالت: نعم، قال لها: فهاتها، قالت: لم أسرقها والله، قال أبو يوسف: قد صدقت يا أمير المؤمنين في الإقرار أو الإنكار وخرجت من اليمين، فسكن غضب الرشيد وأمر أن يحمل إلى دار أبي يوسف مائة ألف درهم، فقالوا: إن الخزان غيب فلو أخرنا ذلك إلى الغد، فقال: إن القاضي أعتقنا الليلة فلا نؤخر صلته إلى الغد، فأمر حتى حمل عشر بدر مع أبي يوسف إلى منزله.
يط- قال بشر المريسي للشافعي: كيف تدعي انعقاد الإجماع مع أن أهل المشرق والمغرب لا يمكن معرفة وجود إجماعهم على الشيء الواحد وكانت هذه المناظرة عند الرشيد، فقال الشافعي: هل تعرف إجماع الناس على خلافة هذا الجالس؟ فأقر به خوفًا وانقطع.
ك- أعرابي قصد الحسين بن علي رضي الله عنهما، فسلم عليه وسأله حاجة وقال: سمعت جدك يقول: «إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة: إما عربي شريف، أو مولى كريم، أو حامل القرآن، أو صاحب وجه صبيح» فأما العرب فشرفت بجدك، وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل، وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أردتم أن تنظروا إليّ فانظروا إلى الحسن والحسين»، فقال الحسين: ما حاجتك؟ فكتبها على الأرض، فقال الحسين سمعت أبي عليًا يقول قيمة كل امرئ ما يحسنه.
وسمعت جدي يقول: «المعروف بقدر المعرفة» فأسألك عن ثلاث مسائل إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي وقد حمل إليّ صرة مختومة من العراق فقال: سل ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال: أي الأعمال أفضل قال الأعرابي: الإيمان بالله.
قال: فما نجاة العبد من الهلكة قال: الثقة بالله، قال: فما يزين المرء قال: علم معه حلم قال: فإن أخطأه ذلك قال: فمال معه كرم قال: فإن أخطأه ذلك قال: ففقر معه صبر قال: فإن أخطأه ذلك قال: فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه فضحك الحسين ورمى بالصرة إليه.
أما الشواهد العقلية في فضيلة العلم فنقول: اعلم أن كون العلم صفة شرف وكمال وكون الجهل صفة نقصان أمر معلوم للعقلاء بالضرورة ولذلك لو قيل للرجل العالم يا جاهل فأنه يتأذى بذلك وإن كان يعلم كذب ذلك ولو قيل للرجل الجاهل يا عالم فإنه يفرح بذلك وإن كان يعلم أنه ليس كذلك وكل ذلك دليل على أن العلم شريف لذاته ومحبوب لذاته والجهل نقصان لذاته وأيضًا فالعلم أينما وجد كان صاحبه محترمًا معظمًا حتى أن الحيوان إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام وانزجر به بعض الانزجار وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان وكذلك جماعة الرعاة إذا رأوا من جنسهم من كان أوفر عقلًا منهم وأغزر فضلًا فيما هم فيه وبصدده انقادوا له طوعًا فالعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من كان دونهم في العلم ولذلك فإن كثيرًا ممن كانوا يعاندون النبي صلى الله عليه وسلم فصدوه ليقتلوه فما كان إلا أن وقع بصرهم عليه فألقى الله في قلوبهم منه روعة وهيبة فهابوه وانقادوا له صلى الله عليه وسلم ولهذا قال الشاعر:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ** كانت بداهتة تنبيك عن خبر

وأيضًا فلا شك أن الإنسان أفضل من سائر الحيوانات وليست تلك الفضيلة لقوته وصولته فإن كثيرًا من الحيوانات يساويه فيها أو يزيد عليه فأذن تلك الفضيلة ليست إلا لاختصاصه بالمزية النورانية واللطيفة الربا نية التي لأجلها صار مستعدًا لإدراك حقائق الأشياء والاطلاع عليها والاشتغال بعبادة الله على ما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وأيضًا الجاهل كأنه في ظلمة شديدة لا يرى شيئًا ألبتة والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات فيطالع الموجود والمعدوم والواجب والممكن والمحال ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض والجوهر إلى البسيط والمركب ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره والجزء الذي به يمتاز عن غيره ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليه وجزئيه وواحده وكثيره حتى يصير عقله كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها فأي سعادة فوق هذه الدرجة ثم إنه بعد صيرورته كذلك تصير النفوس الجاهلة عالمة فتصير تلك النفس كالشمس في عالم الأرواح وسببًا للحياة الأبدية لسائر النفوس فإنها كانت كاملة ثم صارت مكملة وتصير واسطة بين الله وبين عباده ولهذا قال تعالى: {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2] والمفسرون فسروا هذا الروح بالعلم والقرآن وكما أن البدن بلا روح ميت فاسد فكذا الروح بلا علم ميت ونظيره قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] فالعلم روح الروح ونور النور ولب اللب ومن خواص هذه السعادة أنها تكون باقية آمنة عن الفناء والتغير، فإن التصورات الكلية لا يتطرق إليها الزوال والتغير وإذا كانت هذه السعادة في نهاية الجلالة في ذاتها ثم إنها باقية أبد الآبدين ودهر الداهرين كانت لا محالة أكمل السعادات وأيضًا فالأنبياء صلوات الله عليهم ما بعثوا إلا للدعوة إلى الحق قال تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة} [النحل: 125] إلى آخره، وقال: {قُلْ هذه سَبِيلِى ادعوا إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى} [يوسف: 108] ثم خذ من أول الأمر فإنه سبحانه لما قال: {إِنّى جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} قال سبحانه: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فأجابهم سبحانه بكونه عالمًا فلم يجعل سائر صفات الجلال من القدرة.
والإرادة، والسمع، والبصر، والوجود، والقدم، والاستغناء عن المكان والجهة جوابًا لهم وموجبًا لسكوتهم وإنما جعل صفة العلم جوابًا لهم وذلك يدل على أن صفات الجلال والكمال وإن كانت بأسرها في نهاية الشرف إلا أن صفة العلم أشرف من غيرها ثم إنه سبحانه إنما أظهر فضل آدم عليه السلام بالعلم وذلك يدل أيضًا على أن العلم أشرف من غيره ثم إنه سبحانه لما أظهر علمه جعله مسجود الملائكة وخليفة العالم السفلى وذلك يدل على أن تلك المنقبة إنما استحقها آدم عليه السلام بالعلم ثم إن الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس والافتخار بهما إنما يحصل لو كانا مقرونين بالعلم فإنهما إن حصلا بدون العلم كان ذلك نفاقًا والنفاق أخس المراتب قال تعالى: {إِنَّ المنافقين في الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] أو تقليدًا والتقليد مذموم فثبت أن تسبيحهم وتقديسهم إنما صار موجبًا للافتخار ببركة العلم.
ثم إن آدم عليه السلام إنما وقع عليه اسم المعصية لأنه أخطأ في مسألة واحدة اجتهادية على ما سيأتي بيانه ولأجل هذا الخطأ القليل وقع فيما وقع فيه والشيء كلما كان الخطر فيه أكثر كان أشرف فذلك يدل على غاية جلالة العلم.
ثم إنه ببركة جلالة العلم لما تاب وأناب وترك الإصرار والاستكبار وجد خلعة الاجتباء، ثم انظر إلى إبراهيم عليه السلام كيف اشتغل في أول أمره بطلب العلم على ما قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76] ثم انتقل من الكواكب إلى القمر ومن القمر إلى الشمس ولم يزل ينتقل بفكره من شيء إلى شيء إلى أن وصل بالدليل الزاهر والبرهان الباهر إلى المقصود وأعرض عن الشرك فقال: {إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السموات والأرض} [الأنعام: 79] فلما وصل إلى هذه الدرجة مدحه الله تعالى بأشرف المدائح وعظمه على أتم الوجوه فقال تارة: {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والأرض} [الأنعام: 75] وقال أخرى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء} [الأنعام: 83] ثم إنه عليه السلام بعد الفراغ من معرفة المبدأ اشتغل بمعرفة المعاد فقال: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى} [البقرة: 260] ثم لما فرغ من التعلم اشتغل بالتعليم والمحاجة تارة مع أبيه على ما قال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} [مريم: 42] وتارة مع قومه فقال: {مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عاكفون} [الأنبياء: 52] وأخرى مع ملك زمانه فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَاجَّ إبراهيم في رِبّهِ} [البقرة: 258] وانظر إلى صالح وهود وشعيب كيف كان اشتغالهم في أوائل أمورهم وأواخرها بالتعلم والتعليم وإرشاد الخلق إلى النظر والتفكر في الدلائل وكذلك أحوال موسى عليه السلام مع فرعون وجنوده ووجوه دلائله معه، ثم انظر إلى حال سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم كيف من الله عليه بالعلم مرة بعد أخرى فقال: {وَوَجَدَكَ ضَالًا فهدى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فأغنى} [الضحى: 7 8] فقدم الامتنان بالعلم على الامتنان بالمال وقال أيضًا: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] وقال: {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا} [هود: 49] ثم إنه أول ما أوحى إليه قال: {اقرأ باسم رَبّكَ} [العلق: 1] ثم قال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] وهو عليه الصلاة والسلام كان أبدًا يقول: أرنا الأشياء كما هي.
فلو لم يظهر للإنسان مما ذكرنا من الدلائل النقلية والعقلية شرف العلم لاستحال أن يظهر له شيء أصلًا وأيضًا فإن الله تعالى سمى العلم في كتابه بالأسماء الشريفة.
فمنها: الحياة {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} [الأنعام: 122].
وثانيها: الروح {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، وثالثها: النور {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35] وأيضًا قال تعالى في صفة طالوت: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} [البقرة: 247] فقدم العلم على الجسم ولا شك أن المقصود من سائر النعم سعادة البدن، فسعادة البدن أشرف من السعادة المالية فإذا كانت السعادة العلمية راجحة على السعادة الجسمانية فأولى أن تكون راجحة على السعادة المالية.
وقال يوسف {اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] ولم يقل إني حسيب نسيب فصيح مليح، وأيضًا فقد جاء في الخبر «المرء بأصغريه قلبه ولسانه» إن تكلم تكلم بلسانه، وإن قاتل قاتل بجنانه، قال الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

وأيضًا فإن الله تعالى قدم عذاب الجهل على عذاب النار فقال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم} [المطففين: 15، 16] وقال بعضهم: العلوم مطالعها من ثلاثة أوجه، قلب متفكر، ولسان معبر، وبيان مصور، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عين العلم من العلو، ولامه من اللطف، وميمه من المروءة وأيضًا قيل العلوم عشرة: علم التوحيد للأديان، وعلم السر لرد الشيطان، وعلم المعاشرة للإخوان، وعلم الشريعة للأركان، وعلم النجوم للأزمان، وعلم المبارزة للفرسان، وعلم السياسة للسلطان، وعلم الرؤيا للبيان، وعلم الفراسة للبرهان، وعلم الطب للأبدان، وعلم الحقيقة للرحمن، وأيضًا قيل ضرب المثل في العلم بالماء قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} [البقرة: 22] والمياه أربعة: ماء المطر، وماء السيل، وماء القناة، وماء العين فكذا العلوم أربعة علم التوحيد كماء العين لا يجوز تحريكه لئلا يتكدر، وكذا لا ينبغي طلب معرفة كيفية الله عز وجل لئلا يحصل الكفر.
وعلم الفقه يزداد بالاستنباط كماء القناة يزداد بالحفر، وعلم الزهد كماء المطر ينزل صافيًا ويتكدر بغبار الهواء كذلك علم الزهد صاف ويتكدر بالطمع وعلم البدع كماء السيل يميت الأحياء ويهلك الخلق فكذا البدع والله أعلم.